فصل: سورة القصص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (83- 86):

{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)}.
يقول تعالى مخبرًا عن يوم القيامة، وحشر الظالمين المكذبين بآيات الله ورسله إلى بين يدي الله، عز وجل، ليسألهم عما فعلوه في الدار الدنيا، تقريعًا وتوبيخًا، وتصغيرًا وتحقيرًا فقال: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} أي: من كل قوم وقرن فوجًا، أي: جماعة، {مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا}، كما قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22]، وقال تعالى {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7].
وقوله: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} قال ابن عباس، رضي الله عنهما: يدفعون.
وقال قتادة: وَزَعَةٌ ترد أولهم على آخرهم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يساقون.
{حَتَّى إِذَا جَاءُوا} أي: أوقفوا بين يدي الله عز وجل، في مقام المساءلة، {قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: ويسألون عن اعتقادهم، وأعمالهم فلما لم يكونوا من أهل السعادة، وكانوا كما قال الله تعالى عنهم: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى. وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة: 31، 32]، فحينئذ قامت عليهم الحجة، ولم يكن لهم عذر يعتذرون به، كما قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 35، 37]، وهكذا قال هاهنا: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ} أي: بهتوا فلم يكن لهم جواب؛ لأنهم كانوا في الدار الدنيا ظلمة لأنفسهم، وقد ردوا إلى عالم الغيب والشهادة الذي لا تخفى عليه خافية.
ثم قال تعالى منبهًا على قدرته التامة، وسلطانه العظيم، وشأنه الرفيع الذي تجب طاعته والانقياد لأوامره، وتصديق أنبيائه فيما جاءوا به من الحق الذي لا مَحيد عنه، فقال {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ} أي: فيه ظلام تسكن بسببه حركاتهم، وتهدأ أنفاسهم، ويستريحون من نَصَب التعب في نهارهم. {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} أي: منيرًا مشرقًا، فبسبب ذلك يتصرفون في المعايش والمكاسب، والأسفار والتجارات، وغير ذلك من شؤونهم التي يحتاجون إليها، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.

.تفسير الآيات (87- 90):

{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)}.
يخبر تعالى عن هول يوم نفخة الفَزَع في الصُّور، وهو كما جاء في الحديث: «قرن ينفخ فيه». وفي حديث (الصُّور) أن إسرافيل هو الذي ينفخ فيه بأمر الله تعالى، فينفخ فيه أولا نفخة الفزع ويطولها، وذلك في آخر عمر الدنيا، حين تقوم الساعة على شرار الناس من الأحياء، فيفزع مَنْ في السموات ومَنْ في الأرض {إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}، وهم الشهداء، فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون.
قال الإمام مسلم بن الحجاج: حدثنا عُبَيد الله بن مُعاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن النعمان بن سالم: سمعت يعقوب بن عاصم بن عُرْوَة بن مسعود الثقفي، سمعت عبد الله بن عمرو، رضي الله عنه، وجاءه رجل فقال: ما هذا الحديث الذي تَحدث أن الساعة تقوم إلى كذا وكذا؟ فقال: سبحان الله- أو: لا إله إلا الله- أو كلمة نحوهما- لقد هممت ألا أحدث أحدا شيئا أبدا، إنما قلت: إنكم سترون بعد قليل أمرًا عظيمًا يخرب البيت، ويكون ويكون. ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين- لا أدري أربعين يومًا، أو أربعين شهرًا، أو أربعين عامًا- فيبعث الله عيسى بن مريم كأنه عروة بن مسعود، فيطلبه فيهلكه. ثم يمكث الناس سبع سنين، ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله ريحًا باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته، حتى لو أن أحدهم دخل في كبد جبل لدخَلَتْه عليه حتى تقبضه». قال: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع، لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرًا، فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دار رزقهم، حسنٌ عيشهم. ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتًا ورفع ليتا». قال: «وأول مَنْ يسمعه رجل يَلُوط حوض إبله». قال: «فَيَصْعَقُ ويَصعقُ الناس، ثم يرسل الله- أو قال: ينزل الله مطرًا كأنه الطَّل- أو قال: الظل- نعمان الشاك- فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفَخُ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. ثم يقال: يا أيها الناس، هلموا إلى ربكم، وقفوهم إنهم مسؤولون. ثم يقال: أخرجوا بعث النار. فيقال: من كم؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين». قال: «فذلك يوم يجعل الولدان شيبا، وذلك يوم يكشف عن ساق».
وقوله: «ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا» الليت: هو صفحة العنق، أي: أمال عنقه ليستمعه من السماء جيدًا.
فهذه نفخة الفزع. ثم بعد ذلك نفخة الصعق، وهو الموت. ثم بعد ذلك نفخة القيام لرب العالمين، وهو النشور من القبور لجميع الخلائق؛ ولهذا قال: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ}- قُرئ بالمد، وبغيره على الفعل، وكلٌ بمعنى واحد- و{دَاخِرِينَ} أي: صاغرين مطيعين، لا يتخلف أحد عن أمره، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 52]، وقال {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25]. وفي حديث الصور: أنه في النفخة الثالثة يأمر الله الأرواح، فتوضع في ثقب في الصور، ثم ينفخ إسرافيل فيه بعدما تنبت الأجساد في قبورها وأماكنها، فإذا نفخ في الصور طارت الأرواح، تتوهج أرواح المؤمنين نورًا، وأرواح الكافرين ظُلمة، فيقول الله، عز وجل: وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى جسدها. فتجيء الأرواح إلى أجسادها، فتدب فيها كما يَدب السم في اللديغ، ثم يقومون فينفضون التراب من قبورهم، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43].
وقوله: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} أي: تراها كأنها ثابتة باقية على ما كانت عليه، وهي تمر مر السحاب، أي: تزول عن أماكنها، كما قال تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطور: 9، 10]، وقال {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه: 105، 107]، وقال تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً} [الكهف: 47].
وقوله: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} أي: يفعل ذلك بقدرته العظيمة الذي قد أتقن كل ما خلق، وأودع فيه من الحكمة ما أودع، {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} أي: هو عليم بما يفعل عباده من خير وشر فيجازيهم عليه.
ثم بين تعالى حال السعداء والأشقياء يومئذ فقال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا}- قال قتادة: بالإخلاص.
وقال زين العابدين: هي لا إله إلا الله- وقد بيَّن في المكان الآخر أن له عَشْر أمثالها {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}، كما قال في الآية الأخرى: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ} [الأنبياء: 103]، وقال: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [فصلت: 40]، وقال: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37].
وقوله: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} أي: مَنْ لقي الله مسيئًا لا حسنة له، أو: قد رجحت سيئاته على حسناته، كل بحسبه؛ ولهذا قال: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
وقال ابن مسعود وأبو هريرة وابن عباس، رضي الله عنهم، وأنس بن مالك، وعطاء، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وإبراهيم النَّخَعي، وأبو وائل، وأبو صالح، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، والزهري، والسُّدِّي، والضحاك، والحسن، وقتادة، وابن زيد، في قوله: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} يعني: بالشرك.

.تفسير الآيات (91- 93):

{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)}.
يقول تعالى مخبرًا رسوله وآمرًا له أن يقول: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ}، كَمَا قَالَ: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} [يونس: 104].
وإضافة الربوبية إلى البلدة على سبيل التشريف لها والاعتناء بها، كما قال: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3، 4].
وقوله: {الَّذِي حَرَّمَهَا} أي: الذي إنما صارت حرامًا قدرًا وشرعًا، بتحريمه لها، كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضَد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لُقَطَتُه إلا لِمَنْ عرفها، ولا يختلى خلاها». الحديث بتمامه. وقد ثبت في الصحاح والحسان والمسانيد من طرق جماعة تفيد القطع، كما هو مبين في موضعه من كتاب الأحكام، ولله الحمد.
وقوله: {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ}: من باب عطف العام على الخاص، أي: هو رب هذه البلدة، ورب كل شيء ومليكه، {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي: الموحدين المخلصين المنقادين لأمره المطيعين له.
وقوله: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} أي: على الناس أبلغهم إياه، كقوله: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 58]، وكقوله: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 3] أي: أنا مبلغ ومنذر، {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} أي: لي سوية الرسل الذين أنذروا قومهم، وقاموا بما عليهم من أداء الرسالة إليهم، وخَلَصُوا من عهدتهم، وحساب أممهم على الله، كقوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40]، وقال: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود: 12].
{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا}، أي: لله الحمد الذي لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه، والإعذار إليه؛ ولهذا قال: {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].
وقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي: بل هو شهيد على كل شيء.
قال ابن أبي حاتم: ذكر عن أبي عمر الحوضي حفص بن عمر: حدثنا أبو أمية بن يعلى الثقفي، حدثنا سعيد بن أبي سعيد، سمعت أبا هريرة يقول: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، لا يَغْترَّنَّ أحدكم بالله؛ فإن الله لو كان غافلا شيئًا لأغفل البعوضة والخردلة والذرة».
قال أيضا: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا نصر بن علي، قال أبي: أخبرني خالد بن قيس، عن مطر، عن عمر بن عبد العزيز قال: فلو كان الله مغفلا شيئًا لأغفل ما تعفي الرياح من أثر قدمي ابن آدم.
وقد ذكر عن الإمام أحمد، رحمه الله، أنه كان ينشد هذين البيتين، إما له أو لغيره:
إذَا مَا خَلَوتَ الدهْرَ يَومًا فَلا تَقُل ** خَلَوتُ وَلكن قُل عَليّ رَقيب

وَلا تَحْسَبَن الله يَغْفُل ساعةً ** وَلا أن مَا يَخْفى عَلَيْه يَغيب

.سورة القصص:

وهي مكية.
قال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا وَكِيع، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن معد يكرب قال: أتينا عبد الله فسألناه أن يقرأ علينا {طسم} المائتين، فقال: ما هي معي، ولكن عليكم مَن أخذها من رسول الله صلى الله عليه وسلم: خَبَّاب بن الأرَت. قال: فأتينا خَبَّاب بن الأرت، فقرأها علينا، رضي الله عنه.

.تفسير الآيات (1- 6):

{طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)}.
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة.
وقوله: {تلك} أي: هذه {آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} أي: الواضح الجلي الكاشف عن حقائق الأمور، وعلم ما قد كان وما هو كائن.
وقوله: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} كما قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3] أي: نذكر لك الأمر على ما كان عليه، كأنك تشاهد وكأنك حاضر.
ثم قال: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ} أي: تكبر وتجبر وطغى. {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} أي: أصنافا، قد صرف كل صنف فيما يريد من أمور دولته.
وقوله: {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} يعني: بني إسرائيل. وكانوا في ذلك الوقت خيار أهل زمانهم. هذا وقد سلط عليهم هذا الملك الجبار العنيد يستعملهم في أخس الأعمال، ويكُدُّهُم ليلا ونهارًا في أشغاله وأشغال رعيته، ويقتل مع هذا أبناءهم، ويستحيي نساءهم، إهانة لهم واحتقارا، وخوفا من أن يوجد منهم الغلام الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته من أن يوجد منهم غلام، يكون سبب هلاكه وذهاب دولته على يديه. وكانت القبط قد تلقوا هذا من بني إسرائيل فيما كانوا يدرسونه من قول إبراهيم الخليل، حين ورد الديار المصرية، وجرى له مع جبارها ما جرى، حين أخذ سارة ليتخذها جارية، فصانها الله منه، ومنعه منها بقدرته وسلطانه. فبشر إبراهيم عليه السلام ولده أنه سيولد من صلبه وذريته مَن يكون هلاك ملك مصر على يديه، فكانت القبط تتحدث بهذا عند فرعون، فاحترز فرعون من ذلك، وأمر بقتل ذكور بني إسرائيل، ولن ينفع حذر من قدر؛ لأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، ولكل أجل كتاب؛ ولهذا قال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}. وقد فعل تعالى ذلك بهم، كما قال: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137] وقال: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 59]، أراد فرعون بحوله وقوته أن ينجو من موسى، فما نفعه ذلك مع قَدَر الملك العظيم الذي لا يخالف أمره القدري، بل نفذ حكمه وجرى قلمه في القِدَم بأن يكون إهلاك فرعون على يديه، بل يكون هذا الغلام الذي احترزت من وجوده، وقتلت بسببه ألوفا من الولدان إنما منشؤه ومرباه على فراشك، وفي دارك، وغذاؤه من طعامك، وأنت تربيه وتدلله وتتفداه، وحتفك، وهلاكك وهلاك جنودك على يديه، لتعلم أن رب السموات العلا هو القادر الغالب العظيم، العزيز القوي الشديد المحال، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.